الأربعاء، 24 فبراير 2010

سكرات موت خلية

مضت الأشهر الثلاثة بسرعة منذ أن ولدت . لحظة ولادتها لم تكن تعلم أين أو ما هي أو إلى أين تتوجه أو ما يجب أن تعمله. كل ما تذكره هو أنها كانت محاطة بآلاف من مثيلاتها يتحركون من حولها دون كل أو ملل ودون أن تعرف ما الذي يفعلونه. بعضهن يكبرها حجما والبعض الآخر يختلف عنها لونا، إحداها قد خدش غلافها وأخرى عليها لطخة سوداء إلا أنهن كن يتلقين السكر ذاته، والأكسجين ذاته والأملاح ذاته، بعضهن يقربن من وعاء دموي فيأخذن حصة من الغذاء أكثر من غيرهن إلا أن ضغط تيار الدم الذي يتعرضن له كل عدة ثوان كفيل بإسقاطهن قتلى قبل شهر على الأقل من عمرهن المتوقع.

تذكرت أنها وقفت بعد ولادتها لعدة ساعات تفرك عينيها وتنظر حولها متأملة ذلك العدد الهائل من نظيراتها قبل أن تنظر إلى الأعلى لترى خلية تشبهها إلى حد بعيد حجما ولونا وشكلا إلا أنه قد بدى عليها الهرم، ضحكت لها قائلة "لقد تعبت كثيرا من عملية الانقسام لكني سعيدة لكونك هنا بجانبي، هاك بعض السكر الأحادي" وتناولت جزيئا من الغلوكوز ووضعته على غلافها الخلوي. لا زالت تذكر حلاوة السكر وهو يتسرب داخلا إلى أعماقها منحلا في سوائل جسدها. تبعت الفيتامينات والأكسجين والأملاح الغلوكوز، كان لكل منها طعما مميزا، ومع أنها كانت تفضل الغلوكوز بشكل أكثر من غيره إلا أنه لم يسمح لها بأخذ أكثر من حصتها.

لا زالت تذكر عندما شعرت بعد عدة أيام بشيء يتحرك داخلها، شيء جديد يتشكل أو يكبر أو يغير شكله، لم تكن تعلم أنه أدينوسين ثلاثي الفوسفات الذي يخزن طاقتها. لقد بدأ جسمها بالنمو وأصبح أكثر قوة من قبل وبدأت بالحركة تمددا وتقلصا مزعجة جيرانها بقفزاتها الطفولية. تذكرت كلمات نصفها الآخر الهرم "لقد أصبحت جاهزة للعمل!" وبدأت تعلمها كيف تحرك جسدها صعودا وهبوطا مثل الجميع بالتوقيت ذاته وبتناغم. تعثرت في البداية إلا أن ضغط جيرانها عليها شدا ودفعا بدأ يدفع بها شيئا فشيئا لتناغم تحركاتها مع الآخرين. كانت خلية فتية مليئة بالنشاط والطاقة، تتحرك برشاقة وحيوية ناشرة الأمل في جيرانها بقوة دفع جديدة للمجموعة.

لا زالت تذكر عندما رأت أول خلية دم حمراء تجري مسرعة في الوعاء الدموي حاملة معها كرات الأكسجين النقية، لقد كانت مختلفة تماما عنها. إلى تلك اللحظة كانت تعتقد أن جميع من حولها يشبونها مع وجود الاختلاف بينهم، إلا أنها لم تتكن تتصور لوهلة أن هناك من يتحرك بكل تلك السرعة. لقد كانت السرعة التي تتحرك بها خلية الدم الحمراء تعادل ملايين أضعاف السرعة التي قد تتحرك هي بها هذا إن تمكنت من التزحزح من مكانها أصلا. ذلك المكان الضيق بين نظيراتها الذي لا يكفي لأكثر من حركات التمدد والتقلص التي تكررها ليل نهار بتناغم مع الجميع. تأثرت بكل خلايا الحمراء تلك التي هناك، إنها ليست بعيدة مني إلا أن عملها يختلف كثيرا يبدو أن ما تفعله مسليا أتمنى أن أتمكن من الحركة بسرعتها.

لا زالت تذكر كيف بقيت عدة أيام تراقب خلايا الدم الحمراء وتتعلم كيف تتحرك إلا أنها لم تتمكن من التزحزح من مكانها أو أن تمنع نفسها من التقلص والتمدد كما يفعل زملائها. إلا أن اليوم قد حان لتقرير المصير، وفي لحظة صمت شدت نفسها بقوة بقوة أكبر من أي تمدد قامت به سابقا محاولة انتزاع نفسها من بين أقرانها، فشلت المحاولة الأولى إلا أنها حاولت من جديد التخلص من ارتباطها مع الآخرين لتنطلق في مجرى الدم كما تفعل خلايا الدم الحمراء وما كادت أن تنجح في ذلك إلا وكان من حولها يمسك بها دافعا من جديد إلى النسيج المتجانس، وسمعت أصواتا قائلة "بحق الآلهة، ما الذي تفعلينه؟ هل فقدت صوابك؟" "أنت لست كرة دم حمراء، أنت لديك نواة في داخلك، أنت خلية عضلية" "هل تريدين التخلي عنا والرحيل؟" "أنت مخصصة للتقلص والتمدد ولن تقدري على حمل الأكسجين والركض به طول الوقت" وتعالت الهمسات بين زملائها، تلك الهمسات التي كان ثقلها أكبر من قوة الشد التي دفعت بها إلى النسيج العضلي من جديد.

لا زالت تذكر عند أول انقسام لها، لقد كانت أحضرت خلية فتية جديدة أحبتها كثيرا، إلا أنها كانت لم تزل تحتفظ بحلمها الذي لن تستطيع تحقيقه، لكنها فكرت في أن تلك الخلية الفتية قد تستطيع فعل ذلك. وعندما بدأت الخلية الفتية بالحركة تذكرت كيف سارعت للأخذ بها وإطلاعها على مجرى الدم قائلة لها "إن هناك 100 ترليون خلية غيرك في هذا العالم، كل منها له عمل وحلم غير الأخرى، البعض متشابه ويعمل الشيء ذاته، وآخرون يعملون أشياء مختلفة" تنهدت وتابعت قائلة "لقد ولدت وعندي 23 زوج من الصبغيات هي ذات التي عندك، إلا أن من حولي لم يعلمني إلا ما يعلم، أكرر ذات الشيء ليل نهار دون أن أعلم لماذا يجب علي أن أفعل ذلك. أما أنت فما زلت فتية، صحيح أن لديك ذات عدد صبغياتي وتشبهيني ولكن تذكري أن هناك غيرك هنا وتستطيعين أن تفعلي ما تريدين وليس ما يريد الآخرون" لم تفهم الخلية الفتية ما قيل لها ذلك الوقت، إلا أنها بقيت تراقب خلايا الدم الحمراء وهي تتعلم كيفية التمدد والتقلص كزملائها. إلا أنها في ذات ليل وبعيدا عن الأنظار ألقت بنفسها في مجرى الدم دون عودة، وأصبحت منذ ذلك الحين حديثا لخلايا النسيج العضلي "ياللهول! أحدنا لم يعد خلية عضلية، لقد أصبحت خلية دم!".

لقد قاربت اللحظات الأخيرة على القدوم وهي تعيد كل تلك الذكريات مرة أخرى. لقد مر الوقت بسرعة، والحلم لم يتحقق! أمضت عمرها تتحرك بتناغم مع الآخرين، دون أن تعلم إلى تلك اللحظة لماذا يجب عليها فعل ذات الشيء كل يوم فقط لأن الآخرون يفعلونه. وكانت البروتينات داخلها قد بدأت بالتحلل إلى حموض أمينية عندما اقتربت منها خلية دم حمراء حاملة لها كرة من الأكسجين، لم تعد قادرة على الكلام في ذلك الوقت إلا أن نظرها المتلاشي مع تلاشي الحياة في أرجاء جسدها كان كافيا لتمييز أن خلية الدم تلك لم تكن كباقي الخلايا الأخريات، لقد كان لها نواة تشبه نواتها.

هناك تعليقان (2):

  1. هاهاها...جميلة جداً...
    ذكرتني ببرنامج كرتون كنت أحبه كثيراً ((هذه هي الحياة))

    تحياتي

    ردحذف
  2. معك حق سومر. حضرت بعض مشاهد من مسلسل هذه هي الحياة في مخيلتي أثناء الكتابة.

    ردحذف

 
Free counter and web stats