الخميس، 25 مارس 2010

شو بشتغل أبوك؟

حل الصمت على قاعة الصف بعد أن جلس الطالب الجديد في مقعده. يبدو أن الكثيرين لم يكونوا يرحبون بقدومه فقد شارف عدد القابعين في تلك الحجرة على الأربعين بعد أن كانوا أقل من ذلك بخمس طلاب منذ بدء العام الدراسي. يبدو أن سمعة المدرسة تحسنت عما سبق مما جذب إليها المزيد من الطلبة، أو أن أسعار المنازل في تلك المنطقة شهد انخفاضا مؤخرا دفع بالعديد من ذوي الدخل المحدود إلى استئجار منازل فيها، أو ربما أن أعداد القادمين من القرى المجاورة أو البعيدة هو الذي زاد جالبا معه الكثير من البطالة المقنعة أو غير المقنعة ليزيد حمل أكتاف المدينة المترهلة من أناس يحتاجون المزيد من الطعام كل يوم مقابل أناس ينتجون كمية أقل منها في تلك القرى التي غادروها.

كان أكثر من لم يرحب بقدومه هما الطالبين الجالسين بجواره، لكن كان المقعد مريحا أكثر بطالبين، أما الآن فيتوجب أن يحشروا نفسهم معه في مقعد لا يتجاوز طوله المتر وأن يضعا حقيبتهما على الأرض بدل من وضعها في المكان الذي جلس هو فيه. كانت علامات الامتعاض واضحة على وجهيهما، إلا أنه ليس باليد حيلة، فللأسف كان طوله المقارب لطولهما مناسبا للجلوس في أحد مقاعد الصف الرابع من الأمام وكانت المقاعد الأخرى جميعا تحوي ثلاث طلاب.

كانت المدرسة قد أخذت وضعت أعواد غزل الصوف على الطاولة بعد أن تكلمت بشيء من العصبية مع المديرة التي طلبت منها ضم الطالب الجديد إلى صفها رافضة المزيد من الطلبة فقد طفح بها الكيل إلا أنها وافقت أخيرا على مضض. كانت قد أمضت العشرين دقيقة الماضية تغزل الصوف بجانب المدفأة الكهربائية المخصصة لها بهدوء بعد أن طلبت من التلاميذ رسم لوحة عن منجزات الحركة التصحيحية في حصة الرسم. كان الجميع يرسم بهدوء دون أن يسمع في الغرفة غير أصوات أقلام الألوان ترتطم بسطح المقعد عند تبديل واحدها بآخر أو أصوات برايات الأقلام ونفض بقايا محي الخطوط من اللوحات، كانت تلك الأصوات المتكررة تغطي على صوت صرير الأقلام، بل ربما لم يعد هناك للأقلام من صرير بعد أصبحت تصنع من البلاستيك، وبعد أن أصبحت جودة القلم لا تصمد أمام قوة الضغط عليه فينكسر قبل أن ينطق بأي لفظة صرير. كان الجميع يرسم باهتمام، فلم تكن تلك المرة الأولى التي تطلب منهم معلمة رسم لوحة عن منجزات الحركة التصحيحية. لقد كانت اللوحات محفورة في مخيلتهم بأدق التفاصيل بدءا من عدد عنفات سد الفرات، إلى الخطوط البيضاء المقطعة في وسط الطرقات المعبدة، مرورا بعدد الكبلات الكهربائية المعلقة على أعمدة الكهرباء التي نورت القرى والمدن حتى وإن لم تراها أعينهم من .

فتحت المعلمة دفترها الذي تكتب فيه ملاحظات عن الطلاب لتسجيل معلومات الطالب الجديد، صحيح أن عدد الطلاب في الصف قد زاد إلا أن وقت عيد المعلم لم يكن قد حان بعد، وهذا يعني هدية زائدة عما سبق. "لا مشكلة، المهم أن تكون تكون هدية عليها القيمة!" قالت المعلمة لنفسها وهي تسطر سطر جديد فارغ في الدفتر لتسجيل معلومات القادم الجديد. "قوم وقف!" قالت المعلمة بصوت عالي متوجهة للطالب الجديد. فرفع الجميع رأسه من اللوحات موقفا تمرير الأقلام عليها ناظرا إليه. "شو اسمك؟" سألته وهي تعيد نظرها إلى الدفتر واضعة القلم على أول السطر، "حسين"، جرت عمليات الحساب سريعا في رؤوس الطلاب، لقد كان هذا ثالث طالب اسمه حسين في الصف، سيكون من المتعب الآن التمييز بينهم فقد كان أحدهما ينادى باسمه والآخر بلقبه للتمييز بينهما، يبدو أننا يجب أن ننادى الجديد بلقبه أيضا. "وكنيتك؟" تابعت المعلمة دون أن ترفع رأسها من على الدفتر، "حسين" رد الطالب واضعا حسابات زملاءه للاسم المناسب له في حيرة كبيرة وراسما البسمة على وجوه آخرين وهم يتمتمون كلمة "حسنين، حسنين...".

تابعت المعلمة كتابة المعلومة تلو الأخرة منه عن اسم أبوه ولكن ليس اسم أمه، سنة ميلاده، وغيرها حتى وصلت إلى المعلومة التي تهمها شخصيا أكثر من أن تتعلق بأي شيء يهم العملية التعليمية، مهنة الأب. "بس ما يكون أبوه بشتغل بياع صابون كمان، لسا ما خلصو الصابونات من العام الماضي!" رفعت نظرها وحدقت فيه سائلة "شو بشتغل أبوك يا حسين؟" لم تكن المعلمة تنتهي من سؤالها حتى برقت قطرة العرق على طرف حاجبه واحمر وجهه، وفكر في نفسه "يا ربي، سمعت أنو هاي المدرسة أحسن من الماضية؟ بس الظاهر كلو متل بعضو!" ولم يكن قد انتهي من أفكاره إلا وكانت المعلمة تعيد السؤال بحدة أكثر من المرة الأولى "شو ما سمعتني؟ شو بشتغل أبوك؟" تلفت مرة أخرى من حوله محاولا تجاهل السؤال أو على الأقل محاولا تجاهلا متمنيا أن المعلمة لديها من يكفي من الذكاء لفهم تعابير وجهه الممتعض ولم يكن يذهب بعينيه بعيدا إلا أن وقعت على وجه يعرفه، بل يعرفه جيدا، لقد شاهد ذلك الوجه السنة الماضية في مدرسة ما. ولم تكن تمر اللحظة حتى علت بسمة تمتزج فيها السخرية بعلامات النصر على ذلك الوجه وهو يقف متوجها إلى المعلمة قائلا "أبوه لحسنين بشتغل في غسيل الأموات."

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

 
Free counter and web stats