الأحد، 30 أغسطس 2009

تعددية الأحزاب، ترف أم حاجة؟

في العديد من الدول النامية أو الدول ذات نظام الحكم الديكتاتوري تطلق الكثير من الشعارات حول ضرورة الحزب الواحد أو الوحدة الوطنية تحت ظل وفاق وطني وذلك لمنع تمزق البيت السياسي الداخلي من أجل مصلحة الشعب وهدوء باله، ولكن السؤال المطروح هو هل أن الوفاق السياسي الداخلي هي في مصلحة الدولة أم ضدها؟

قد يكون مفهوم الأحزاب بالعصر الحالي يطلق بشكل كبير على الأحزاب السياسية التي تشارك في العمل السياسي والتي تسعى لترويج خطة حكم معين للوصول للسلطة في دولة ما، ولكن كلمة "حزب" بشكل عام تشير إلى أي تجمع لعدة أشخاص تجمعهم فكرة معينة فالكثير قد سمع باسم "غزوة الأحزاب".

في الحالة العامة يكون تعدد الأحزاب السياسية في مصلحة سكان البلد (طبعا باستثناء نزاعات الأحزاب السياسية المسلحة والتي في تلك الحالة تنتفي عنها صفة الحزب السياسي إلى صفة الجماعة المسلحة) وذلك لوجود من يمثل آراء جميع طبقات الشعب من موافق ومعارض وأكثرية وأقلية ورجل ومرأة ومن جميع الأديان وبالتالي من وجهة نظر الشعب لا يشعر أي من الأفراد بعدم وجود من يمثله في سلطة الحكم، أو على الأقل عدم وجود من يستطيع أن يوصل رأيه وصوته إليه في سدة السلطة، من جهة أخرى فإنه يمنع تسلط فكرة أو مجموعة أفكار وبالتالي مجموعة الأشخاص القائمة على حراسة هذه الأفكار على السلطة في ذلك البلد وبالتالي استقصاء كل من يخالف أو من لا يعتقد بتلك الأفكار على الرغم من أنهم مواطنين لذلك البلد وهم من يدفع الضرائب التي تزود الفئة الحاكمة بقوت يومها.

من أشهر الأمثلة التي قد يعلمها الجميع على الأحزاب السياسية التي تحولت إلى أنظمة حكم ديكتاتوري أو "أنظمة الوفاق الوطني" كما كان ينظر إليها من الداخل هو النظام النازي في ألمانيا الممثل بالحزب النازي، الفاشية في إيطاليا، يوكسانكاي في اليابان وهذه الثلاثة كانت الأنظمة السائدة في الدول التي كانت من أبرز مثيري المشاكل في العالم في النصف الأول القرن العشرين، وعلى الرغم من وجود معتقدين بالأفكار الثلاثة السابقة في عصرنا اليوم إلا أنهم لا يشكلون ذات الخطر الذي سببته تلك الأنظمة في وقتها فقط لسبب وحيد وهي أن تلك الأنظمة حكمت في ذلك الوقت دون أن تشكل أطياف الدولة بكاملها.

ربما تدوينتي هذه تقليدية بعض الشيء وموضوعها قد يعيه أي مثقف، إلا أن مراجعة البديهيات من وقت لآخر أمر مهم حتى لا ننسى، ولكي لا ينسى أبناؤنا من بعدنا.

الخميس، 27 أغسطس 2009

المفاضلة العامة، تلك الكذبة الكبيرة

كتبت تدوينتي السابقة ولم يكن في حسباني شيء إلا تسليط الضوء على رأيي في وجود نوع من الطبقية الاجتماعية في طيات نظام التعليم الموازي الذي كما أسلفت لم أعاصره وقد تبقى وجهة نظري قاصرة عن بعض جوانبه سواء تلك السلبية أم الإيجابية.
إلا أن تعليقات القراء مشكورين سلطت الأضواء على جوانب غفلت عن ذهني أثناء كتابة الموضوع، وأكثر ما شدني هو عبارة "ماهي خيارات الطالب ميسور الحال، قبل التعليم الموازي؟" من uramium وعبارة "لم أفهم لم عليه ان لا يذهب للتعليم الموازي؟" من أمنية.

قد يتقبل المجتمع السوري اليوم نظام التعليم الموازي على أنه حل للطالب من أبناء الطبقة الميسورة وذلك عوضا عن سفره للدراسة في الخارج وبالتالي وجود احتمال كبير لخسارته من البلد أو تعرضه للمتاعب في الغربة أثناء دراسته؟ أتساءل هل هذا حقا هو السبب الحقيقي وراء نظام التعليم الموازي، "توطين الطلبة؟" بمراجعة صفحة إحصاءات المغتربين في موقع وزارة المغتربين نجد أن عدد المغتربين السوريين حاليا هو 981000 مغترب، أي ما يشكل حوالي 5 % من عدد السكان وهي نسبة أكبر بكثير من عدد جميع من يتقدم لامتحانات الثانوية العامة لعدة أعوام مجتمعة، ثم هل يهمنا حقاً بقاء الشباب في سورية؟ إذا ما الذي يفسر وجود أكبر نسبة من المغتربين من الطبقة العمرية في العشرينات والثلاثينات من العمر؟ طبعا كلنا يعلم السبب.

على العموم موضوع الاغتراب خارج عن نطاق هذه التدوينة. السؤال المطروح هو "هل نحن بحاجة للتعليم الموازي؟" البعض والكثير منهم من الطلبة قد يجاوب "نعم" وهي وجهة نظر أحترمها، لكن أتساءل "لماذا؟" سيكون الجواب بطبيعة الحال "لأحصل على مقعد في كلية أفضل؟" وهنا يبدأ موضوعي الجديد، "ما الذي يحدد الكلية الأفضل من الكلية الأسوأ؟"

ما يحدد "الكلية الأفضل" و "الكلية الأسوأ" في وجهة نظر المجتمع السوري هو ترتيب الكليات حسب مجموع المرحلة الثانوية في ورقة "المفاضلة العامة". كما تعلمون منذ عقود تتربع الكليات الذهبية وهي كليات الطب وطب الأسنان والصيدلة على عرش تلك القائمة يليها كلية الهندسة المعلوماتية وهذه الكليات الأربع يعدها الكثير الهدف الأسمى لأي طالب في المرحلة الثانوية، تمتد القائمة لتأتي الكليات الفضية والتي تتضمن الهندسات بفروعها بدءا بالهندسة المدنية ونزولا حتى الهندسة الزراعية، تليها كليات المرتبة الثالثة التي تتضمن الحقوق والآداب والاقتصاد و .. و .. و تطول القائمة لتبدأ المعاهد المتوسطة ... حتى آخر القائمة.

لن أخدع نفسي أو أخدع الآخرين بالقول أني كنت خارج إطار المجتمع السوري عند اختيار الفرع الذي أمضيت فيه فترة دراستي الجامعية الأولى، وأني سجلت رغباتي في المفاضلة وفقا للترتيب في الأعلى، لكن والآن وبعد تمرس في المجتمع ورؤية الأنظمة التعليمية في الدول الأخرى بدأ يتضح لي سوء نظام المفاضلة العامة ذلك.

في الاعتقاد العام السائد في المجتمع السوري أن ذلك الترتيب هو ترتيب يتعلق بالمدخول المادي للخريج واحتمال تأمين فرصة عمل مستقبلية بعد التخرج، لذلك تكون المهن الصحية والتقنية في أعلى القائمة بينما تكون المهن الخدمية في منتصفها وأسفلها. طبعا هذا الاعتقاد قد يكون صحيحا في الجزء الأكبر منه خاصة إن أخذنا في عين الاعتبار الوضع العام السائد في سورية، إلا أنه ليس بالمطلق.

شخصيا أعتبر أن المبدع في أي مجال يستطيع أن يفيد المجتمع وأن يحقق دخلا أكثر من أي طبيب أو صيدلي أو مهندس، سواء كان ذلك المبدع أستاذا أو محاميا، أو رساما أو عازف قانون أو محاسبا أو نجار باتون ... الخ. قد يقول لي أحدهم، "اصح يا أخي، أنت لست في مدينة أفلاطون الفاضلة؟" ولكن هل تضمن أيها السائل العزيز أن كل الأطباء الخريجين من كلية الطب سيكونون في خدمة المجتمع وأن دخولهم ستكون من أعلى الدخول و أن لا يكون أحدهم مثل هذا الطبيب؟ من فرض أن يكون الأطباء هم من الطلاب الأكثر نشاطا دراسيا (وذلك بسبب طلب المجموع العالي لعلامات الثانوية) عن غيرهم؟ من هم أكثر من يخلد التاريخ أسمائهم، هل هم الأطباء والصيادلة والمهندسين، أم علماء الرياضيات والفنانين والأدباء؟

شخصيا لا أدعو إلى إلغاء نظام المفاضلة العامة، لأنه وللأسف أفضل الحلول الموجودة في الوضع الحالي، إلا أني أدعو المجتمع إلى تغيير وجهة نظره حول أهمية كل اختصاص جامعي وعدم الانخداع بهالة الكذبة الكبيرة لترتيب الكليات في ورقة المفاضلة العامة، بل أن يتبع الطالب ميوله واهتماماته قبل التفكير بأي أحلام وردية عن مستقبل بصدرية بيضاء، وجيوب ممتلئة بأوراق خضراء اللون سحبها من جيوب المساكين، أو قبل أن يحلم بمستقبل تلمع فيه مسطرة رسم هندسي التي سيسطر بها بناء سيتداعى على رؤوس سكانه قبل أن يأتي الزلزال الموعود.

الأربعاء، 26 أغسطس 2009

التعليم الموازي خدمة للطلاب أم طبقية اجتماعية؟

وصلني يوم أمس هاتف من أحد أقربائي يستشيرني في مفاضلة ابنه الذي أتم مرحلة دراسته الثانوية، ويستعد لدخول الجامعة. يبدو أن مجموعه يؤهله دخول أحد الكليات التي يطلق عليها المجتمع للأسف اسم "الكليات المحترمة" (والتي يتصور الكثير أنها تنتهي مع انتهاء كلمة الهندسة في لائحة الكليات في ورقة المفاضلة العامة)، إلا أنه يطمع إلى دخول أحد "الكليات الذهبية" الأربع في مقدمة المفاضلة وإن كلفه الأمر دفع رسوم التعليم الموازي. لم تكن مسميات مثل التعليم الموازي والتعليم المفتوح والجامعات الخاصة وغيرها موجودة على أيامي، إلا أن اطلاعي على الموضوع ربما كان كافيا لنصحه من حيث رأيي الشخصي بعدم التوجه إلى التعليم الموازي.

بعد بحث قصير تبين أن التعليم الموازي هو نظام وضعته وزارة التعليم العالي منذ العام الدراسي 2002/2003 والذي كان قد طبق في بعض الدول العربية وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية حيث يدرس الطلاب التابعين جنبا إلى جنب مع الطلاب المقبولين بالمفاضلة العامة ولكن برسوم أعلى (تصل إلى عشرات الأضعاف حسب علمي) مقابل التسامح في بعض العلامات من مجموع الثانوية العامة.

من وجهة نظر وزارة التعليم العالي فهو "بزنس" كبير يدر الذهب، حيث يتم حجز نسبة (أخالها تصل إلى 15 - 20 %) من عدد مقاعد كل قسم لطلاب التعليم الموازي وإدخالهم برسوم عالية دون أن يتطلب منها ذلك أي زيادة في البنية التحتية للكليات (حيث أن عدد الاستيعاب لا يزيد عموما) بل يكون على حساب نسبة الطلاب الذين لا يستطيعون دفع رسوم التعليم الموازي والذين تكون علاماتهم على الأرجح مساوية لعلامات من حصل على مقاعد التعليم الموازي في تلك الكلية، وعلى حساب أعضاء الهيئة التدريسية الذين سيتلقون طلاب ذوي درجة تحصيل أدنى من المعدل الذي كان موجود سابقا مما يحملهم بأعباء نسبية (ربما تكون غير ملحوظة وغير مقاسة كميا) ولكن بالمقابل رفع المدخول لأعضاء الهيئة التدريسية قد يؤدي إلى سد تلك الفجوة. أما من وجهة نظر فلسفة التعليم، فإن نظام كهذا سيكون محققا لأهداف وزارة التعليم العالي في تحقيق العدل في التعليم للجميع وذلك بمساعدة الطلاب الذين تنقصهم بعض العلامات بسبب أو بآخر وذلك قد لا يعكس مستواهم الدراسي الحقيقي على دخول الكلية التي يرغبون بها، إلا أن ذلك سيكون تحقيقه بشكل واقعي أكبر إن تم توسيع عدد المقاعد الدراسية للكليات لهؤلاء الفئة من الطلاب وليس حجز نسبة من المقاعد الحالية على حساب طلاب المفاضلة العامة.

من وجهة نظر الطالب فلدينا ثلاث حالات (حالات عامة قد لا تنطبق على الجميع) :
* طالب مسجل بالكلية دون تعليم موازي، سينتابه الشعور بالفوقية على طلاب التعليم الموازي وذلك لاعتبار نفسه (لا شعوريا) بأنه متفوق دراسيا عليهم وأنهم دخلوا الكلية بسبب النقود
* طالب مسجل بالكلية بنظام التعليم الموازي، سيشعر بالتمييز والتفرقة بين زملائه بسبب مشاعر الطلاب من الفئة أعلاه، ولكنه من ناحية أخرى قد يشعر بالفوقية بسبب قوة الحالة المادية له التي مكنته من الحصول على مقعد في الكلية التي يرغبها
* طالب لم يستطع التسجيل بالكلية تنقصه علامة واحدة (وكان سيستطيع التسجيل إن لم يتم حجز 20% من المقاعد لنظام التعليم الموازي) : سيشعر بالسخط على المجتمع وعلى وزارة التعليم العالي الظالمة التي وضعت هذا النظام الذي هضمه حقه مقابل ملئ جيوب الوزارة، كما سيشعر بالسخط على أهله وحالتهم المادية البسيطة التي لم تمكنهم من دفع رسوم التعليم الموازي له ليدخل الكلية التي يحلم بها، بالإضافة إلى ذلك فإن سيصبح من فئة الطلاب الأولى أعلاه في كليته التي يسجل بها بالشعور بالتفوق على طلاب التعليم الموازي هناك وتتكرر الحلقة نزولا بين الفئات الثلاثة للطلاب.

من وجهة نظر أهل الطالب، سيكون الوضع مشابها لحالة الطلاب، بأن يشعر أهل الطالب الميسورين ماديا الذي استطاع التسجيل في التعليم الموازي بقدرتهم على "شراء" أي مقعد في الكلية التي يرغب بها ابنهم بالنقود، أو أن يكدح أهل الطالب من الطبقة المتوسطة لتأمين أقساط الجامعة المرتفعة مقابل حصول ابنهم على أفضل مستوى تعليمي (بنظرهم)، أو أن يشعر أهل الطالب من الطبقة الفقيرة بالنقمة على المجتمع الذي يضع النقود دائما حاجزا للتمييز بين الناس حتى في أمور العلم والمعرفة التي يفترض أن تكون متاحة الفرص للجميع.

الآن يبقى المجتمع الذي سيكون ببغاءا لأحاديث أنواع الأشخاص المذكورة في الأعلى و يترقب نتائج المفاضلة ويبارك لزيد على دخوله كلية أحلامه ويرطب خاطر عمرو لعدم توفقه في الحصول على مقعد ذهبي في الكلية التي كان يحلم بها أهله طوال سنوات دراسته الاثنتي عشر.

الثلاثاء، 25 أغسطس 2009

تعديل دستوري

خيم الصمت على القاعة، أليس من المفترض أن يتكلم أحد هنا؟ أكثر من 300 شخص غرقوا في الصمت العميق، إلا أن بعض العيون كانت تتكلم بمفردها وهي مغلقة كي لا يسترق السمع إليها أحد، وكان البعض يصرخ ويصرخ عاليا إلا أن ملابس الشتاء السميكة التي لا تناسب حر الصيف كتمت ذلك الصراخ في داخله. البعض الآخر كان يفكر "يا ترى ما الذي سيحصل لبطل مسلسل السهرة اليوم؟ هل سيستطيع التقدم لخطبة حبيبته؟"، أحدهم كان يفكر بالذهب والورود والحرير، وآخر كان يحلم بالدم والسلاح والدموع.

نهض أحدهم رافعا يده، فأومأ له رئيس الجلسة آذنا له بالخروج. تنهنه آخر فتوجهت إليه عشرات الأنظار فانقلب لون وجهه إلى حمرة امتزجت مع سمرة رسمتها شمس الريف الحارقة فرفع كأس الماء إلى فمه محاولاً إخفاء تلك الحمرة في ظل الكأس الزجاجي العريض ما استطاع، واستغرق في شربة الماء إلى أن عادت الأنظار إلى ما كانت تفعل من ذي قبل.

"هل من معارض؟" صرخ رئيس الجلسة بصوت خافت إلا أن الأعوام التي أمضاها على ذلك الكرسي العالي كانت كفيلة بإسماع جميع الحاضرين هناك دون أدنى شك في ما يقول، إلا أنه لم يكد ينه عبارته إلا وكان الجميع قد عاد إلى ما كان يفعله، وعاد الصمت إلى القاعة إلا أنه في هذه المرة كان قد تخلله صوت خرزات مسبحة ذات الثلاثة والثلاثين خرزة تدور وتدور بين أصابع أحدهم والتي كان قد أحضرها معه من الحج في العام الماضي.

نهض أحدهم إلا أنه لم يرفع يده في هذه المرة. "ها هو ذو النظارات يقف مرة أخرى! الله يستر!" همس ذلك الذي كان يحلم بالذهب والحرير إلا أن همساته سمعها الكثيرين هناك. إلا أن صاحب النظارات لم يتفوه بحرف فقد كان يعلم أن صوته الخافت غير كفيل بإسماع من كان حاضرا هناك، فكرسيه كان منزويا ولم يكن قد تدرب على الحديث بصوت واضح من قبل، إلا أنه مرر ورقة كان قد أمضى الدقائق الماضية مطرقاً رأسه في كتابتها إلى مساعد الجلسة، الذي هرول بها إلى مكتب رئيس الجلسة.

رفع رئيس الجلسة نظاراته التي كان يستخدمها للنظر بعيدا مقطبا حاجبيه لقراءة الورقة التي قربها من وجهه، وبعد نصف دقيقة أعاد النظارات إلى مكانها وأنزل الورقة إلى مكتبه بعد أن همس في أذن مساعد الجلسة الذي أسرع عائدا إلى مكان الكرسي المنزوي لصاحب النظارات فهمس له بضع كلمات ثم خرجا سوية من القاعة.

"بما أنه لا معارض، فقد تم إقرار التعديل الدستوري الذي تقدمت به الحكومة مشكورة. رفعت الجلسة." قال رئيس الجلسة وبدأ بلملمة بعض الأوراق ورمي أوراق أخرى في سلة المهملات الموضوعة أسفل مكتبه أثناء تبادل بعض الكلمات مع كاتب الجلسة ومساعديه وبسمة خافتة تعلو وجهه.

بضع دقائق مرت قبل أن يُفتَحَ باب القاعة التي كانت قد فرغت من الحاضرين، ليدخل أحدهم ليلتقط حقيبته بيديه التي لا تزالا لم تجفا تماما بعد، وكان في طريقه للخروج من القاعة عندما لفت نظره وجود حقيبة أخرى متبقية على أحد المقاعد مع بعض الأوراق المنثورة على المقعد وبجانبها قلم منزوع الغطاء.

الاثنين، 24 أغسطس 2009

كتاب القرائة

وقف ممسكا كتاب القراءة الذي لم يعد يشير إلى أنه كتاب قراءة إلا لون غلافه الكرتوني الأخضر وكلمة "القرائة" التي كتبها بخط يده مخطئا تهجئتها بعد أن تلفلفت حواف الكتاب الذي لازال في الخدمة منذ عهد أخيه الكبير الذي أصبح في سنته الجامعية الثانية، "طبع هذا الكتاب للمرة الأولى في العام 1981"، كان قد قرأ هذه العبارة عشرات المرات لأنها على الصفحة الأولى تحت الغلاف الكرتوني الأخضر، ذلك الغلاف الذي كانت قد اقتطعته والدته من أرومة تقويم العام الماضي وطلبت من صاحب المكتبة أن يخرزه بالكتاب بعد أن فاوضته على ثمن الخرزات لأكثر من ربع ساعة.

فاحت رائحة المازوت الجاف من الصفحة الصفراء بعد أن قلبها بإشارة من معلمه إلى أن زميلته السابقة كان قد أنهت قراءة تلك الصفحة، كان قد قدر لذلك الكتاب أن يمضي صيف العام الماضي في قبو المدرسة في أسفل ربطة كتب القراءة للصف الرابع الابتدائي ملامسا أرض القبو طوال حر الصيف، حتى عندما كان صنبور خزان المازوت ينقط على مهل في نصف قنينة مياه قديمة راميا برذاذه إلى مسافة نصف متر من حولها.

"لقد مر الأسبوع سريعا، هل انتهى دور جميع من في الصف وحان دوري في القراءة مرة أخرى؟"، "الجم..." صاح معلم الصف بصوت عال مساعدا له لبداية القراءة، كانت الكلمة أطول من أن يستطيع قراءتها دفعة واحدة، ذهب نظره مرة أخرى إلى الكلمات المكتوبة في أسفل الصفحة التي كانت أسهل للقراءة من النص المطبوع "اذهب إلى الصفحة 66 بانتظارك هدية"، كان قد ذهب هناك عشرات المرات، ثم إلى صفحة أخرى فأخرى تابعا الإرشادات فيعود من حيث بدأ.

سمع الأستاذ يقول مرة أخرى "الجم..."، فبدأ بالقراءة محمر الوجه "الجمعي..." وطرف نظره إلى زميله بجانبه الذي وضع عددا جديدا من ألغاز المغامرين الخمسة لقراءته تحت المقعد، "هل يقرأه حقا، أم أنه ينظر إلى الصور فقط؟" لم يقدر له التفكير سابقا بالنظر إلى أي كتاب آخر غير كتبه المدرسية المهترئة ومجلات الفنانات المرمية تحت كراسي الحديقة ليدرك أن ليس كل الكتب هي كتب بصور وألوان.

"الجمعية..." قال المعلم مرة أخرى وقد أصابه الملل، كان يريد الانتقال إلى من يجلس بجانبه لينهي النص دفعة واحدة قبل أن يقرع جرس الانصراف، إلا أن ضميره المهني لم يكن ليسمح له بإقصاء ضعيفي المستوى التعليمي. "الجمعية..." ردد بعد المعلم، "الجمعية الـ..."، هناك تذكر أن بعد غد هو يوم توزيع السكر في الجمعية التموينية، أرجو أن أكون آخر من يحصل على السكر في كيس القماش ليعطيني إياه موزع التموين، فأمي دائما تقول أن أكياس السكر تصلح كحفاضات جيدة للأطفال الرضع، صحيح أن السكر كان أصفر اللون، إلا أنه يحلي الشاي بكميات أقل من السكر الأبيض.

"الجمعية التعاونية الفلاحية التي ساهمت في التخلص من التسلط الإقطاعي على الفلاحين هي مكرمة من مكارم الوطن" أكمل المعلم القراءة سريعا وهو يغلق الكتاب حاملاً إياه وهو يتوجه خارجا من الصف قبل أن ينهي جرس الحصة الخامسة صوته الضائع بين صيحات الطلاب المندفعين خارج المدرسة.

الأحد، 23 أغسطس 2009

عيد وفاة

اجتمعوا بأكفانهم البيضاء التي كانوا قد حضروها لهذه المناسبة، لملموا الزهور التي أحضرها أهله في الصباح عند زيارة قبره في ذكرى وفاته الثالثة، وزينوا بها طاولة العشاء ينتظرونه ليصحو من قيلولة بعد الظهيرة. لقد مرت السنوات الثلاث مثل لمح البصر، كان آخر من وفد إلى تلك المقبرة التي امتنعت عن استقبال المزيد من الموتى بسبب محدودية المكان. رغم أنهم شعروا بالحزن على عدم مجئ المزيد من النزلاء الجدد، إلا أنهم كانوا راضين عن عدد المقيمين الحاليين، فإن زاد العدد أكثر سيكون من المتعب التحضير لحفلات أعياد الوفاة لكل النزلاء.

صحا من نومه، كان كفنه قد تجعد فقد نسي استبداله قبل النوم، استغرب من النور الزائد في المقبرة على غير العادة، ظن أنها أحد تلك أعمال الحفريات المزعجة التي لن تجعله ينام طوال الليل مرة أخرى هي السبب في كل تلك الإنارة. نظر حوله فلاحظ اختفاء الأزهار التي أحضرها في الصباح ابنه الأكبر مع أحفاده الثلاثة الذي كان أحدهم لا يزال حديث العهد بالمشي، كانت تلك المرة الأولى التي يقابله فيها، "من ذهب بها ياترى؟ هل هو أحد سارقي المقابر مرة أخرى؟ ألم تكفه أضراس الذهب والفضة، وجماجم وعظام النزلاء هنا حتى تدنو نفسه لسرقة أزهار ستذبل مع وصوله إلى المدينة؟" "أم أنه عاشق لا يعرف لون العشق يريد أن يقدمها لحبيبة لا تفرق بين لون أزهار الموت ولون أزهار الحب؟"

نهض من مرقده يبحث عن مفتاح النور ليطفأه، وإذا بجميع أنوار المقبرة قد خفتت وانطلقت أصوات المجتمعين حول المائدة عالية "عيد وفاة سعيد". تسمر في مكانه من هول المفاجأة محمر الوجه، وبدأ قلبه ينبض عاليا، ومنذ ذلك الحين وفي تلك المقبرة قبر فارغ.

جدران المدنية

منذ عدة أيام وأنا متوجه إلى منزلي ليلا شاهدت ابن عرس يجري في الشارع، كان داكن اللون لدرجة اعتقدت معه أنه مجرد هر أو حتى فأر كبير إلا أن ذيله العريض لم يترك أي مجال للشك في أنه ابن عرس. ذهلت من ذلك حيث أنها كانت أول مرة أرى فيها ابن عرس في حياتي، فما بالكم إن كان ذلك ابن عرس الذي شاهدته في منتصف مدينة مكتظة بالسكان!

فكرت في نفسي قليلا، لم يكن غريبا أن أشاهد قطا أو فأرا أو حتى كلبا يمر في الشارع بينما كان من الغريب أن أشاهد ابن عرس؟ أليست كل ما ذكرت حيوانات؟ بل إن ابن عرس هو من فصيلة القطط أي لن يمنع ظهوره في الشارع ما يمنع ظهور أي قطة. لماذا ما الغريب في ظهور ابن عرس في المدينة؟ لم أجد تفسيرا لغرابة اعتقادي بظهور ابن عرس في المدينة إلا جدران المدنية المرسومة في رؤوسنا حول قداسة المدن البشرية وعزلتها عن العالم الخارجي أو بالأحرى مما يحيط بها من بيئة تضم جميع المخلوقات على وجه الكرة الأرضية وليست مقتصرة على الجنس البشري فحسب.

نعم، لو كان للمدينة جدران ببوابات وعليها حراس من بني البشر يسمحون لأي كائن بالدخول أو يمنعونه لكان حقا من الغريب رؤية ابن عرس في المدينة، حيث ستمنعه الكثير من البوابات من الدخول لأن بني البشر لم يعتادوا على وجوده بينهم سواء لأنه ليس حيوانا أليفا كالقط أو الكلب، أو أنه ليس حيوانا متسللا في مجاري المياه كالفئران والجرذان، ولا يمكنه الطيران وتجاوز حواجز بني البشر كالحمام والغربان.

إلا أن العيش في المدينة لفترة طويلة ترسم حقا تلك الجدران في مخيلتنا، وتجعل أي ساكن للمدينة يعتقد بوجود تلك الجدران حول المدينة التي تمنع دخول الدببة والنمور والأسود والذئاب والضباع إليها، كما تقصي الغابات والمستنقعات والجبال خارجا فتصبح أماكن للنزهة بعيدا عن المدينة وجدرانها.

يبقى السؤال معلقا، إن رأيت اليوم ابن عرس في الشارع ما الذي يمنع من أن أرى ذئبا أو دبا في الغد يقف أمام المتجر الذي اعتدت التسوق منه؟ هل هو خوف تلك المخلوقات من بني البشر ومدنيتهم فيرسمون لأنفسهم جدران يقفون عندها، أم لأسفهم على نمط الحياة في المدينة فيأبون الدخول إليها والعيش فيها كما يعيش الإنسان المسكين آسرا نفسه في جدران المدنية التي لا وجود لها إلا في خياله الضيق وأفقه المحدود؟

الجمعة، 21 أغسطس 2009

عيون النعام للسوريين؟

وصل إلى بريدي منذ عدة أيام أحد الرسائل الممررة (التي أكرهها) تتحدث عن مشروع في سورية يهدف إلى زرع قرنيات النعام للمكفوفين، بالإمكان الاطلاع على تفاصيل الموضوع على هذه الوصلة.

في الواقع لست متخصصا لا في الطب ولا في الطب البيطري لكن دفعني الفضول عن موضوع أسمع به للمرة الأولى للبحث في الأمر فأمضيت بضع ساعات متنقلا بين مواقع الإنترنت وإليكم ما تمخض عنه البحث، الذي هو عبارة عن نتائج شخصية قد تكون خاطئة.

تشير الكثير من المقالات عن النعام إلى احتمالات وجود تطبيقات لزرع قرنية النعام في الإنسان، لكن لم أجد أي بحث منشور علميا في مجلة معترف بها عن تفصيلات تجارب بشرية سابقة. وهذه بعض الوصلات التي ذكرت إمكانية إجراء مثل تلك العمليات على هذه الوصلة وهذه.

هذه المقالات لا تتعدى وصف هذه النتائج بكلمات مثل "إدعاءات" أو "احتمالية استخدام"
possible use, claims
لقرنيات النعام في عمليات نقل القرنية إلى الإنسان، ولم أجد أي ذكر لتفاصيل أي أبحاث جرت أو تجارب بشرية سابقة.

بحث آخر لفت انتباهي نشر باللغة الصينية في العام 2005 يتحدث عن رفض زرع قرنية النعام في الأرانب
الوصلة التالية توضح عنوان البحث باللغة الإنكليزية أما الملخص فهو باللغة الصينية على هذه الوصلة.

إن صياغة المقال الذي أشرت إليه في بداية رسالتي انتشر بشكل كبير في المنتديات ومواقع الإنترنت والذي لا تتجاوز صياغتها أكثر من مجرد صياغة إعلانية مليئة بالمشاعر الفياضة للدكتور ولمشروعه وللشركة المشرفة على المشروع بدعوى إنقاذ قرنيات أكثر من 50 ألف مواطن سوري، طبعا بغض النظر عن الديباجة التي في مقدمة المقالة عن سوء حال بنك القرنيات السوري الذي في الواقع يبيع القرنيات للمواطنين.

يبدو أن شركة أوبتيميد (التي أشير إليها في أكثر من مكان على أنها مؤسسة) هي شركة معدات طبية عينية مقرها في بريطانيا وهذا هو موقعها على شبكة الإنترنت، من خلال البحث ولم أجد أي منشور يتعلق بدراسات قامت بها الشركة أو أي أبحاث تمت بقيامها بأي عمليات زراعة قرنية للبشر من النعام.

بحسب معرفتي البسيطة، فإن الأبحاث التي تجرى لتطوير الأدوية الجديدة أو وسائل العلاج الجديدة تمر بالكثير من الوقت قبل أن تطبق على نطاق واسع على البشر (قد تمتد إلى حوالي 10 أعوام) تجري خلالها الكثير من التجارب على الحيوانات. ولكن أن تأتي شركة بريطانية بتمويل بحث لإجراء عمليات زرع لقرنية على الإنسان مباشرة في بلد أجنبي (والذي هو سوريا) بتمويل من الشركة دون أي سوابق لذلك النوع من العمليات سواء في بريطانيا أو في أي دولة أخرى يطرح الكثير من الشكوك حول الموضوع، في أن الشركة في الواقع تمول ذلك المشروع كجزء من ميزانيتها للأبحاث لإجراء عمليات الزرع على الإنسان في سوريا ربما لتساهل القوانين الطبية فيها، أو تساهل القائمين على سن القوانين الطبية لسبب ما أو لآخر قد يتراوح بين الجهل بما يجرى في العالم الخارجي إلى التعاطف مع حالات المرضى المتزايدة التي تحتاج لعمليات نقل القرنية.

تبقى تلك استنتاجات شخصية من شخص غير مختص، تحتمل الخطأ أو تحتمل الصواب ولكن يبقى عاتق تقديم التفسيرات على ما يجري على أرض الواقع من قبل القائمين على المشروع والمسؤولين عن القوانين الصحية في سوريا، قبل أن نرى بعض المواطنين السوريين ينظرون إلينا بعيون النعام، أو أن لا يبقى أثر على الإطلاق لأولئك المواطنين بعد وصول النعامات بعيونها البراقة.

انتبه، نافذة المجتمع مفتوحة

"نافذة المجتمع"، هل سمع أحد بهذه الكلمة من قبل؟ ربما قد يكون سمع البعض بالتعبير بالعامية "دكانتك مفتوحة"، أو بالإنكليزية XYZ كاختصار لجملة (eXamine Your Zipper). نعم أنا أتحدث عن الحالة التي قد حدثت للكثير منا وقد تكون معرض لها وأنت تقرأ هذه الكلمات بأن تكون فتحة سروالك الأمامي مفتوحة.

لكن لماذا "نافذة المجتمع"؟ كلمة "نافذة المجتمع" هي ترجمة للمصطلح العامي "دكانتك مفتوحة" من اللغة اليابانية بالشكل (社会の窓) والتي تلفظ "شاكاي نو مادو"، عندما سمعت بهذا المصطلح للمرة الأولى قبل أكثر من ست سنوات أضحكني كثيرا لفكاهته وروح الدعابة فيه.

عندما سمعت ذلك التعبير للمرة الأولى أول ما خطر على بالي مثلما قد يخطر على بال أي شاب في ذلك العمر تفسير لا ثاني له لأصل ذلك المصطلح وهو أن فتحة البنطال هي نافذة المنطقة من جسم الإنسان التي تؤدي إلى الإنجاب وبالتالي زيادة عدد أفراد المجتمع. عذرا للتصوير الذي قد يكون مسيئا ولكن سماع وصف "نافذة المجتمع" لفتحة البنطال تحديدا سيؤدي بشكل طبيعي إلى ذلك النوع من التفكير عند شاب في أول عشرينات عمره.

انطوت الأيام ولم أنس ذلك المصطلح من بالي، استخدمته أكثر من مرة كنوع من المزاح عند مشاهدة فتحات سراويل بعض أصدقائي مفتوحة، كما وجهه لي الكثيرين أكثر من مرة وانتهى الأمر عادة بضحكة عالية، إلا أن المصطلح كان ما يزال غامض الأصل بالنسبة لي، لم يستخدم هذا المصطلح إن كان فعلا ذلك المعنى منسوبا له من قبل الرجال والنساء على حد سواء دون خجل؟

اليوم قررت كشف سر هذا المصطلح، بحثت عنه في السيد غوغل العزيز فجائني بالخبر اليقين. لم يكن أصل مصطلح "نافذة المجتمع" هو المعنى الصبياني الذي بقيت أتصوره لتلك السنوات الطوال من حياتي، بل أصل المصطلح كان عبارة ذكرتها ممثلة في أحد المسلسلات الإذاعية الذي كان يطلق عليه "نافذة المجتمع" فيما سبق. قصة المسلسل كانت تشبه إلى حد كبير مسلسل "حكم العدالة" الإذاعي المعروف من قبل الكبير والصغير في سورية، لكن مع اختلاف بسيط أن ذلك المسلسل كان موجه لكشف حالات الرشوة والمحسوبية عند موظفي الدولة الكبار بالإضافة إلى كشف حالات الفساد في الأنظمة الإدارية. في أحد تلك الحلقات، كان يجري حديث بين أحد المتورطين ومحققة، عندما أشارت إلى فتحة بنطال المتورط وأخبرته "انتبه، نافذة المجتمع مفتوحة". تلك كانت إشارة إلى أن فتحة البنطال تغطي أشياء لا يريد الإنسان إظهارها ولكن وفي لحظة غفلة تكون تلك الفتحة معرضة لأنظار الجميع فتكشف جميع أسراره، وعليه فانطلق وصف "نافذة المجتمع" على فتحة البنطال مثلاً، أي أنه مهما حاول الإنسان تغطية أموره الخاصة سواء السيئة منها أم الجيدة فقد يأتي وقت يغفل فيه وتفتح النافذة أمام أعين الجميع لمشاهدة أفعاله وتصرفاته على حقيقتها.

نعم، هذه هي نافذة المجتمع.... هي نافذة لدى كل منا خاصة من كان في موقع المسؤولية، فلينتبه كل منا على نافذته فأعين المجتمع دائما موجهة لها، ولن يسر المجتمع على الإطلاق رؤية ما في داخل تلك النوافذ إن لم يكن نحن مسرورون بما في داخلها أصلاً.

الخميس، 20 أغسطس 2009

عندما تصبح اللباقة أحد أشكال التمييز الاجتماعي

من أحد آداب وسائل النقل التي كنت قد تربيت عليها صغيرا هي منح المقعد الذي أجلس فيه إلى أي شخص مسن أو امرأة. في وسائل نقل الدول المتقدمة تلاحظ الكثير من اللافتات في وسائل النقل تحث الركاب على منح المقاعد لجلوس المرضى، وكبار السن أو الحوامل أو المعوقين حركيا. أذكر مرة أني كنت قد أنهيت عملية تبرع بالدم وتوجهت لركوب مترو الأنفاق، وكنت في حال يرثى لها يبدو أنها انعكست على وجهي بشكل أو بآخر مما اضطر أحد الركاب إلى الانتباه لحالتي وإجلاسي في مكانه. كانت من حالات اللطف التي لن أنساها وبريق القلق ينبع من عينيه على لون وجهي المتعب.

على العموم ليس هذا موضوعنا اليوم، السؤال المطروح هو هل ينبغي منح الفرصة للجلوس للأشخاص الآخرين فقط بالنظر إلى أنهم كبار السن أو معاقين أو حوامل؟ من يدرس نفسية الشخص المعاق، يدرك بسهولة أن أكثر شيء يكرهه الشخص المعاق في هذه الحياة ليس هو إعاقته بحد ذاتها، بل كل ما يذكره بإعاقته. يكون المعاقون لفترات طويلة معتادون على نمط معين للحياة يقترب بشكل كبير من نمط الحياة اليومية للأشخاص العاديين سواء من ناحية توازن الأعضاء أو البصر ... الخ. عند عرض فرصة الجلوس من شخص سليم لشخص معاق دون أي طلب من الشخص المعاق أو ظهور احتمالية لوقوعه أثناء تحرك عربة النقل، فإن ذلك قد يشعر الشخص المعاق بشعور قد يجرحه وذلك لتمييزه عن الآخرين فقط بسبب إعاقته وإشعاره بأن إعاقته تمنحه مزايا أو على الأقل تميزه عن الآخرين في حين قد يود أن يعامل بشكل متساوي مثل جميع الركاب الآخرين.

ينطبق الشيء ذاته على منح فرصة الجلوس للأشخاص المسنين، فليس كل شخص مسن يعني أنه قد فقد القدرة على التوازن أو التحكم بجسمه، فعند عرض فرصة الجلوس له قد يؤدي إلى شعوره بكبر السن والتأثير على نفسيته وقد يبدأ بالتفكير بأن الناس من حوله يعتقدون أن نهايته قد اقتربت لذلك يمنحونه العطف.

في العرف العام، ينظر المجتمع إلى من يمنح كرسيه في وسائل النقل للأشخاص الآخرين على أنه شخص لبق ويحترم الآخرين، بينما في الوقت ذاته قد يكون ذلك الفعل قد أثر على نفسة من منح له الكرسي على أنه معاق اجتماعيا وذلك من أبسط أشكال التمييز الاجتماعي.

الآن نعود إلى بداية الحديث، إذا ما افترضنا أن المعاقين أو المسنين فعلا قد يحتاجون للجلوس، ما المعنى من وراء إعطاء الأماكن للجلوس للنساء في بعض الدول العربية أو الإسلامية؟ هل كل النساء حوامل؟ طبعا لا. نعم قد يكون نوع من أنواع اللباقة الاجتماعية، ولكن قد يشعر بعض النساء بأن تلك الكراسي تمنح لهم من قبل المجتمع (حتى وإن لم يصرح بذلك) كدليل على نقص فيهم أو كبرهان على ضعف مما يشعرهم بالتمييز الاجتماعي.

أنا قطعا لست ضد اللباقة ومنح الكراسي للآخرين الذين يبدو عليهم الحاجة فعلا للجلوس، لكني باختصار ضد إبراز الذات كشخص لبق مقابل منح فرصة الجلوس للآخرين أو للنساء في الأماكن العامة والتي قد تشعر البعض بنوع من التمييز الاجتماعي سواء شعرنا بذلك أم لم نشعر.

الخميس، 13 أغسطس 2009

الخطيئة والثقة

لا العنوان ليس بخاطئ، لم أقرأ (ولا أظن أني سأقرأ قريبا) رواية الجريمة والعقاب. كان ما فكرت به اليوم، بعد أن شاهدت برنامج عن النشل في المتاجر الكبيرة، اعتقدت لوهلة أن هذا العمل أشنع من القتل! اعتقاد مفاجئ وغريب؟ نعم هو كذلك. ربما يكون تفكيري خاطئا لكن في معظم حوادث القتل يرتكب القاتل الجريمة بدافع ما سواء الكره أو السرقة أو الانتقام ... الخ. أما في حوادث النشل (لا أتكلم هنا إطلاقا عن السرقة) فيقوم الفاعل بفعلته تجاه الضحية والذي هو صاحب المتجر فقط لأن صاحب المتجر قد أعطى الثقة للفاعل بالدخول إلى متجره والتجول به بحرية.
نعم في السنوات الأخيرة، تضع معظم المتاجر الكبيرة كاميرات للمراقبة في أماكن ظاهرة للعيان كدليل على عدم منح الثقة المطلقة للزبائن، بل إعلامهم بأن تصرفاتهم تخضع للمراقبة وقد تكشف في أي لحظة. لكن تبقى هذه الأساليب قابلة للخداع بشكل أو بآخر ضمن هامش الثقة المتبقي والذي لا تحصره تلك الوسائل.

فكرت قليلاً، هل النشل فقط هو الخطيئة الوحيدة التي تسببها الثقة؟
فكان الجواب بلا. الخيانة الزوجية هي أحد الأمثلة الأخرى على علاقة الثقة بالخطيئة. حيث يقوم أحد طرفي الزوجية بخرق ثقة الطرف الآخر به على عدم وجود شريك آخر في الظلام بالقيام بعلاقة جانبية مع طرف ثالث. هذا النوع من علاقة الخطيئة بالثقة أصعب بالتحكم من المثال السابق عن النشل وذلك لأن مجرد وضع مثل كاميرات المراقبة التي توضع في المتاجر الكبرى في العلاقة الزوجية سواء عن طريق التنصت على الاتصالات أو مراقبة الرسائل الواردة على الهاتف، أو تتبع تحركات الشريك فيعتبر بحد ذاته خرق لثقة الشريك الأول.

الغش في المأكولات والأوزان من قبل البائعين، الغش في الامتحانات من قبل الطلاب وغيرها هي أيضا أمثلة عن علاقة الخطيئة بالثقة الممنوحة للفاعل.

لكن... وعلى الرغم مما بينت في الأعلى من أن الخطيئة تأتي كثمن للثقة الممنوحة للفاعل، فلم يعتبر المجتمع أن هذا النوع من الخطايا هو من الأنواع الممكن التجاوز عنها دون عقاب رادع قاس كما في حالات النشل أو الخيانة الزوجية أو الغش، حيث لا تتجاوز التعويضات في معظم المجتمعات ذات القوانين الوضعية التعويضات المالية ولا ترتقي إلى العقاب الجسدي (ذلك باستثناء بعض الدول القائمة على القوانين الدينية الصارمة). أظن أن ذلك بسبب أن الخطيئة بحد ذاتها جاءت بسبب الثقة الممنوحة. أي أن الخطأ في الأصل هو خطأ من منح الثقة للفاعل دون معرفته المعرفة الكافية، طبعا هذا لا ينفي أن الفاعل لديه الدافع لعمل الفعل لكن دون تلك الثقة الممنوحة له لم يكن ليتجرأ على القيام به، ولذا فإن عقابه يكون قاصرا على عقاب يتناسب مع نواياه السيئة وليس مع الفعل الذي قام به، إذ لا يمكن أن نعاقب من ينشل قطعة خبز من مخبز بذات عقاب من يقوم بالسطو المسلح على بنك. فالأول قام بذلك نتيجة عدم وجود حماية على قطعة الخبز تلك، بينما في الحالة الثانية فالفعل تم بالإجبار.

أما الفاعل لفعل الخطيئة مقابل الثقة فهو في أغلب الحالات يكون على علم بعمله، لكن دوافع مثل الفقر أو الحب، أو الجوع (والتي هي في الغالب من الغرائز الأساسية الإنسانية الأولى) تكون الدافع الأكبر لخرقه الثقة (والتي هي من الفضائل الإنسانية التي تأتي في ترتيب يلي الغرائز) والقيام بالفعل.

 
Free counter and web stats